Skip to main content
مقتطف من رواية ”وليمة لأعشاب البحر“ لحيدر حيدر

أحدهما كان يحدق عبر السهب وانعكاسات أصيل الشمس على أثباج الماء، وهذا الغروب المتكرر الذي يليه شروق، وفي مواجهة هذه القامات المحنية، قامات البشر المجوَّفة من الداخل والمكسورة بتعاقب الزمن الذي لا يحمل غير الفقدان وانتصار الأعداء وجراثيم الخيانة والمذابح الأهلية الفاشلة والبكاء على الضحايا والمفقودين والذين رحلوا بلا عودة.

بينما يواصل الآخر رسم جبال وأشجار ومياه دفاقة، صائغا من صلصال خياله وموج رغباته بشرا آخرين. بشر صلاب، يتحركون بخطوات واثقة بين الجبال والكهوف ومجاري الأنهار وأنفاق المدن. بشر أينما هبطوا يوقدون النار ليردوا دوائر الظلمة الهابطة من حنايا الزمن، الزمن الذي لا بد من تحويل مجراه كي لا يُستعاد كما كان، وكما صُنع من خمائر الوحل والرماد والدماء المخثرة والحيض والبخور والصلوات وأصوات الندب والتخاذل والخيانات والتصدعات. ص ١٤٦

أمس نزلت إلى السوق وشفت الناس. رأيت الحوانيت الممتدة في شرايين المدينة ورأيت السلع المعروضة من آخر مبتكرات الموضة إلى السيارات الأمريكية والفرنسية وأجهزة التلفزيون إلى حوانيت الذهب والماس. لم أسمع ولم أر إلا خذ وهات. إله المال كان يصرخ صراخ وحش جائع في غابة. الإله السماوي. إلههم الذي يصومون له ويركعون من أجله في الجوامع، كان يُداس ويُجرجَر. كانوا خاشعين أمام الإله الجديد: الدينار. لم يتغير شيء. كل الناس كانوا هناك يبيعون ويشترون باجتذاب مغناطيسي. ضراوة التملك. ضراوة الاستهلاك. ضراوة النهب. صار السوق كل شيء في حياتهم. لقد تحولوا إلى ذرة تدور في مدار خذروف السلعة. كانوا مشدوهين أمام العرض. مسمرين أمام الأشياء التي تسلب لبهم ناسين الرب والثورة والأخلاق. إنهم يشترون ويشترون بحمى وشبق الجنس. كل الشعب كان هناك في سوق المدينة. هذا هو الوطن الآن. تسألني: ماذا فعلت إزاء هذا التحول الآميبي. حقاً ماذا فعلت! بعت كل ما أملك بدءاً من الشرف وانتهاء بالله والثورة واحتفظت بنفسي. إلى الجحيم. الوطن الذي صار سوقاً ليس وطني، وأنا لا ذنب لي. لقد سجلوه في الدوائر العقارية والمصارف باسمهم: العسكر والوزراء وجهابذة الحزب والمخبرون والتجار، ثم طوقوه بالأسلاك الشائكة والدبابات، أما وطني أنا فهذا البنسيون وهذا الجسد. ص ٢٤٩


Comments